خطبة بعنوان ” وقفات مع النفس بعد الحج، وأهمية العلم والتعلم درس من دروس الحج” للدكتور أحمد رمضان
خطبة بعنوان ” وقفات مع النفس بعد الحج، وأهمية العلم والتعلم درس من دروس الحج” للدكتور أحمد رمضان.
لتحميل الخطبة أضغط هنا
عناصر الخطبة:
الوقفة الأولي: الشكر لله بعد الطاعة.
الوقفة الثانية: رجع الحجيج بصفحة بيضاء.
الوقفة الثالثة: أسباب قبول الأعمال الصالحة ومنها:
1- استصغار العمل وعدم العجب والغرور به.
2- الخوف من رد العمل وعدم قبوله .
3- الرجاء وكثرة الدعاء.
4- – كثرة الاستغفار.
5- الإكثار من الأعمال الصالحة.
الوقفة الرابعة مع من لم يحج:
الوقفة الخامسة: أهمية العلم والتعلم درس من دروس الحج.
أما بعد………………….
قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيط عند الميقات، وهلت دموع التوبة في صعيد عرفات على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجت بالافتقار إلى الله كل الأصوات بجميع اللغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفة للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلة من أروع الرحلات، وسياحة من أجمل السياحات، عاد الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله، قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، خير من الدنيا وأعراضها وأغراضها التي ما هي إلا طيف خيال، مصيره الزوال والارتحال، ومتاعٌ قليل، عرضة للآفات، وصَدَف للفوات، فهنيئًا للحجاج حجُهم، وللعُبَّاد عبادتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قول الرسول فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)) أخرجه البخاري.
فمن الأمور التي ينبغي الاهتمام بها بعد القيام بأي عمل : مسألة قبول العمل؛ هل قُـبِـل أم لا، فإن التوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، ولكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، وهي نعمة القبول. وهذا متأكد جداً بعد الحج الذي تكبد فيه العبد أنواع المشاق، فما أعظم المصيبة إذا لم يقبل ؟ وما أشد الخسارة إن رد العمل على صاحبه ، وباء بالخسران المبين في الدين والدنيا !
وإذا علم العبد أن كثيراً من الأعمال ترد على صاحبها لأسباب كثيرة كان أهم ما يهمه معرفة أسباب القبول ، فإذا وجدها في نفسه فليحمد الله ، وليعمل على الثبات على الاستمرار عليها ، وإن لم يجدها فليكن أول اهتمامه من الآن: العمل بها بجد وإخلاص لله تعالى.
ولذلك نحتاج إلي عدة وقفات مع النفس :
الوقفة الأولي : يا من حج بيت الله الحرام ، اشكر الله على ما أولاك ، واحمده على ما حباك وأعطاك ، تتابع عليك بِرُّه ، واتصل خيرُه ، وعمَّ عطاؤه ، وكمُلت فواضله ، وتمت نوافله { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فظُن بربك كلَ جميل ، وأمِّل كلَ خيرٍ جزيل ، وقوّي رجاءك بالله في قبولِ حجِك ، ومحْوِ ما سلف من ذنوبك ، فقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ” قال الله تعالى : أنا عند ظنِ عبدي بي ” [ أخرجه الشيخان ] فهنيئًا لك حجُك وعبادتُك واجتهادُك .
الوقفة الثانية : يا من حج البيت الكريم : لقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية ، ولبست بعد حجك ثيابًا طاهرة نقية ، فحذار حذار من العودةِ إلى الأفعال المخزية ، والمسالكِ المردية ، والأعمال الشائنة ، فما أحسن الحسنةِ تتبعها الحسنة ، وما أقبح السيئةِ بعد الحسنة ، وإن من قبول العمل الصالح إتباعه بعمل صالح .
عــــادَ الحجـــيجُ ففاحتِ الأجــــواءُ ****وتزيَّنتْ لقدومـــــــهم أرجــــــــاءُ
عادوا كما الطفـــــل ِ الرضيعِ نقاوةً **** والنــورُ بيــنَ المقلتينِ جـــــــزاءُ
رفعـــوا الأيادي للإلــــــه ِ تضرُّعـاً **** وعلــى الشفاه ِ الراعشـاتِ دعاءُ
ذرفــوا الدمـــوعَ التائبـــــات ِ تذلُّلا ً**** حُــْزنـاً على ماقدَّمــوا وأســـاؤوا
ومــنَ القلوبِ الوالهــاتِ قصـــائـــدٌ **** ما قالها صخـــرٌ ولا الخنســـــاءُ
يا عائداً منْ أرضِ مكَّـــــــةَ تائبـــاً **** وعليـــكَ منْ نـــورِ الإلــــهِ رداءُ
فالوجهُ منْ طهــرِ اللقـــاءِ مخضَّبٌ **** بضيــاءِ آمـــالٍ يواكبهــا الرجـاءُ
والحلـّةُ البيضاءُ تحكــــــي لوحــة ً **** غــرَّاءَ..نعمَ اللوحــــة ُ الغــــرَّاءُ
هـلْ زرتَ طيبةَ؟هلْ عيونكَ أدمعتْ؟*** فلــها القلــوبُ تهافــتٌ وحُــــــداءُ
ُ
هــيَ جنــَّة ُ الدنيــا ..فليسَ كحسنها **** حسنٌ ، فمنها وحدهــا الإغــراء
وأنـا الذي أمضيتُ عمـــري حالما ً**** فَلكَمْ يطيبُ بظلِّهـــــــا الإبقــــــاءُ
أأُلامُ في حبّــــي لها ..وهــي التي **** في روضها قدْ حلَّـــتِ العظمـــاءُ
إنْ كـانَ يفتنكَ الجمالُ ،فقفْ علــى ****أعتابهـــا زمنـــاً ..فينهمرُ الضياءُ
صــلِّ علــى المبعوث فينا رحمـــة ً**** منْ لم تُخـــلّدْ مثلـــــــهُ الأســـماءُ
خُــذنــي إليــها استحمُّ بنورهـــــــا **** منْ فرطِ وجـــدي ..هدني الإعياءُ
لهفـــي على أهــلِ البقيعِ وذكرهــمْ **** قطفوا النجومَ منِ السمـاءِ وجاؤوا
شمسُ الهدايةِ منْ هنالكَ أشرقـــــتْ**** فضياءها للتائهيــــــنَ بـــــــــراءُ
يا عــائداً بشذا الحبيبِ ونـــــــــوره**** ماذا ؟ وكيفَ ؟ فكلُّنــــا إصغـــاءُ
الوقفة الثالثة: أسباب قبول الأعمال الصالحة.
ومن أسباب قبول الأعمال الصالحة:
1- استصغار العمل وعدم العجب والغرور به: إن الإنسان مهما عمل وقدم فإن عمله كله لايؤدي شكر نعمة من النعم التي في جسده من سمع أو بصر أو نطق أو غيرها، ولايقوم بشيء من حق الله تبارك وتعالى، فإن حقه فوق الوصف، ولذلك كان من صفات المخلصين أنهم يستصغرون أعمالهم، ولايرونها شيئاً، حتى لايعجبوا بها، ولايصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ويكسلوا عن الأعمال الصالحة. ومما يعين على استصغار العمل: معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير.
ولنتأمل كيف أن الله تعالى يوصي نبيه بذلك بعد أن أمره بأمور عظام فقال تعالى:{ يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولاتمنن تستكثر}. فمن معاني الآية ما قاله الحسن البصري: لاتمنن بعملك على ربك تستكثره.
2- الخوف من رد العمل وعدم قبوله : لقد كان السلف الصالح يهتمون بقبول العمل أشد الاهتمام، حتى يكونوا في حالة خوف وإشفاق، قال الله عز وجل في وصف حالهم تلك: { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون:60،27). وقد فسرها النبي بأنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لايتقبل منهم. فعن عائشة رضي الله عنها زوجُ النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ فقال ” لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تُقبل منهم { أُوْلَـئِكَ يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ } ” [ أخرجه الترمذي ]
وأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله عز وجل يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين} ( المائدة:27.
3- الرجاء وكثرة الدعاء:
ورجاء قبول العمل- مع الخوف من رده -يورث الإنسان تواضعاً وخشوعاً لله تعالى، فيزيد إيمانه . وعندما يتحقق الرجاء فإن الإنسان يرفع يديه سائلاً الله قبول عمله؛ فإنه وحده القادر على ذلك، وهذا مافعله أبونا إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، كما حكى الله عنهم في بنائهم الكعبة فقال: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}( البقرة:127).
4- كثرة الاستغفار: مهما حرص الإنسان على تكميل عمله فإنه لابد من النقص والتقصير، ولذلك علمنا الله تعالى كيف نرفع هذا النقص فأمرنا بالاستفغار بعد العبادات، فقال بعد أن ذكر مناسك الحج: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}( البقرة:199). وأمر نبيه أن يختم حياته العامرة بعبادة الله والجهاد في سبيله بالاستغفار فقال: { إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}. فكان يقول في ركوعه وسجوده: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) رواه البخاري. وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد كل صلاة فيقول: ( استغفر الله) ثلاث مرات.
5- الإكثار من الأعمال الصالحة: إن العمل الصالح شجرة طيبة، تحتاج إلى سقاية ورعاية، حتى تنمو وتثبت، وتؤتي ثمارها، وإن من علامات قبول الحسنة: فعل الحسنة بعدها، فإن الحسنة تقول: أختي أختي. وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وفضله؛ أنه يكرم عبده إذا فعل حسنة، وأخلص فيها لله أنه يفتح له باباً إلى حسنة أخرى؛ ليزيده منه قرباً.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( أتانا رسول الله فوضع رجله بيني وبين فاطمة – رضي الله عنها – فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا، فقال: ( يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين) قال علي: والله ما تركتها بعد. فقال له رجل -كان في نفسه عليه شيء -:ولا ليلة صفين؟ قال علي: ( ولا ليلة صفين)، (أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي). فلم يتركها رضي الله عنه في وقت الشدة، ليلة التعب والحرب والكرب، ومن باب أولى وقت الراحة والرخاء.
والنفس بطبعها تحب الكسل والراحة، فلا
تعطها مناها حتى لا يجد الشيطان إليك سبيلاً ، قال الحسن البصري: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك مداوماً ملّك ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمعفيك.
ولابدّ لك من الصبر على الطاعات وأنت تواصل مشوار حياتك الجديدة ، واصبر أيضاً عن المعاصي، فإن الصبر على الطاعات وعن المعاصي من أرفع درجاتالصبر ، قال ميمون بن مهران: الصبر صبران فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية.
وعن الحريث بن قيس قال: إذا أردت أمراً من الخير فلا تؤخره للغد ، وإذا كنت في أمر الدنيا فتوخ، وإذا كنت في الصلاة فقال لك الشيطان أنك ترائى، فزدها طولاً.
فالمبادرة المبادرة ولا تقولن سوف أو سأفعل.
وجاهد نفسك، ولا تضعف كما جاهدتها أيام كنت بتلك الأماكن الطاهرة،
قال الله تعالى: ((وَالَّذيِنَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْدينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنِّ اللهَ لَمَعَ المُحْسنينَ))العنكبوت 69.
وقال تعالى: ((فَأَمَّا مَن طَغَىَ وَآثَرَ الحَيَاَةَ الدُنيَا (38) فَإنَ الجَحيمَ هي المَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَاف مَقَامَ رَبّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الَّهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّة هيَ المَأْوَى)).النازعات.
وللحج المبرور أمارة ، ولقبوله منارة ، سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى : ما الحجُ المبرور ؟ قال : أن تعودَ زاهدًا في الدنيا ، راغبًا في الآخرة ، فليكن حجُك حاجزًا لك عن مواقعِ الهلكة ، ومانعًا لك من المزالقِ المُتلفة ، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات ، واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالحِ العمل إلا حلولُ الأجل ، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخُلُقِ الأكمل ، والعقلِ الأرزن ، والوقارِ الأرْصَن ، والعِرض الأصون ، والشِيَمِ المرْضية ، والسجايا الكريمة ، ما أجملَ أن تعود حَسَنَ المعاملة لقِعادك ، كريمَ المعاشرةِ لأولادك ، طاهرَ الفؤاد ، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد ، المُضْمَرُ منه خيرٌ من المظهر ، والخافي أجملُ من البادي ، فإن من يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة فهو حقًا من استفاد من الحجِ وأسراره ودروسه وآثاره .
الوقفة الرابعة مع من لم يحج:
وأما من لم يحج فقد كان في أيام مباركات ومرت به ساعات فاضلات,فعشر ذي الحجة ” ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر ” أخرجه البخاري عن ابن عباس, ويوم عرفة صيامه يعدل صيام سنة فائتة وسنة لاحقة كما في مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه, ويوم النحر يوم الحج الأكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يوم الحج الأكبر يوم النحر ) أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند صحيح وأخرجه البخاري تعليقاً, وفيه الأضحية التي أمر الله بها في قوله تعالى :{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2:الكوثر) , وقد ضحى نبيناً صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين كما في المتفق عليه عن أنس, وكذلك أيام التشريق للحاج وغير الحاج أيام يشرع فيها ذكر الله مطلقاً و بعد الصلوات المفروضات كما في حديث نُبَيْشَةَ الهذلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب ) وفي رواية : ( وذكر لله عز وجل ) أخرجه مسلم, ( قيل لأحمد – رحمه الله – : بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ؟ قال : بالإجماع : عمرَ وعليٍّ وابنِ عباس وابنِ مسعود رضي الله عنهم )المغني (3/289) المجموع للنووي (5/35)
فإذا كان المسلم في هذه الأيام المباركات يتقلب بين ذكر الله والذبح له والصيام, فجدير به أن تكون له هذه العبادات مهذبة لسلوكه مربية له على الاستمرار على الطاعة بعدها إذ أن عبادة الله عز وجل لا تُوقْت بزمان ولا تُحد بمكان بل كل وقت الإنسان ينبغي أن يكون مصروفاً في طاعة الله ومرضاته: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (162, 163:الأنعام) وبعد أخي الكريم يا من أدركت هذه الأيام الفاضلة هل خرجت منها بحال أحسن من حالك قبلها فتفرح بفضل الله ورحمته:{ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (58:يونس) أم أنك خرجت منها كما دخلت كأنك ما حجت وما بررت, أو ما صمت وما نحرت فعند ذلك ابك على خطيئتك واستغفر ربك من تقصيرك وزلتك, فإذا لم تغتنم مواسم الخيرات والأيام الفاضلات فمتى يكون الاغتنام اذان؟ .
الخطبة الثانية:
أما بعد….
الوقفة الخامسة: العلم والتعلم درس من دروس الحج:
فإذا كان من واجب الحاج وغير الحاج هو المداومة علي العمل الصالح ، فيجب أن يحرص الحاج وغير الحاج علي العلم والتعلم سواء أكان علما أخرويا ، أو علما يعود بالنفع علي الفرد والمجتمع ، وذلك لنأخذ بيد الوطن إلي التقدم ، وخصوصا ونحن في بداية عام دراسي جديد.
العلمُ أساسُ نَهضةِ الأُمَمِ وتقدُّمِهَا، ورفعةِ الشعوبِ وازدهارِهَا، فمَا مِنْ أُمَّةٍ نالَتْ حظًّا مِنَ الرفعَةِ والعُلوِّ، وبلغَتْ منْزلةً مِنَ النهضةِ والسمُوِّ، إلاَّ كانَ العلمُ أساسَهَا، والمعرفةُ سبيلَهَا، قالَ تعالَى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) ولذلكَ اهتمَّ الإسلامُ بالعلمِ اهتماماً عظيماً، فوجَّهَ الناسَ إلَى القراءةِ؛ لأنَّهَا سبيلُ العلمِ، قالَ سبحانَهُ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) وأقسَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأدواتِ العلمِ ووسائلِ تحصيلِهِ، فِي إشارةٍ إلَى أهميةِ كتابةِ العلمِ وتوثيقِهِ، فقالَ عزَّ وجلَّ: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) كمَا رفَعَ الإسلامُ مِنْ شأنِ العالِمِ والمتعلمِ، قالَ اللهُ تعالَى:
( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ )
والعلمُ الذِي دعَا الإسلامُ إلَى تحصيلِهِ يشمَلُ كُلَّ علمٍ نافعٍ يُحقِّقُ التقدُّمَ والتطورَ والبناءَ لوطننا ولأمتنا، ويعودُ علَى البشريةِ بالخيرِ والسعادةِ والنماءِ، وهذَا مَا أشارَ إليهِ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقولِهِ:« مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ » فكُلُّ فرعٍ مِنْ فُرُوعِ العلمِ والمعرفةِ يقصدُهُ المسلمُ ابتغاءَ وجهِ اللهِ تعالَى يكونُ عليهِ مأجوراً.
عباد الله! غداً بداية العام الدراسي الجديد في الجامعات ، بعد أن بدأ في المراحل المختلفة منذ أقل من شهر، وهي مناسبة لها تأثير كبير في حياتنا اليومية، وفي برامجنا، وأوقات راحتنا وعملنا، بل هي مناسبة تحسب لها الدول والمؤسسات التربوية ألف حساب وحساب، وذلك في ظل تزايد إدراك العالم بأهمية العملية التعليمية؛ حتى أضحى التعليم من أبرز سماته البارزة، وعلاماته المتميزة.
فالكل يُدرك اليوم أن التعليم أساس التطوير والتنمية، ولا غرابة، فهو مشروع استثمار غاية في الأهمية، أليس استثمارًا في العقول والأفكار؟ فغدًا يتوجه الملايين من طلاب وطالبات الجامعات والمدارس من أبنائنا وبناتنا يتوجهون إلى مقاعد الدراسة، وإلى المحاضن التعليمية والتربوية؛ للنهل من معين العلم والمعرفة، والتأهل لمستقبل قريب يمسكون فيه بزمام الأمور والمسؤولية، وهاهم يقبلون على أيام الدراسة بعد أن ودعوا أيام الإجازة، أيام عدم الاستقرار، أيام اللا تنظيم في الحياة! فغداً يستقبلون أيام العلم والتعليم، أيام التربية والتوجيه، أيام القراءة والمذاكرة، أيام التسلح بسلاح المعرفة والمهارات، فالعلم سلاح وقد أثبت التاريخ أنه لن يقف في وجه سلاح العلم أي سلاح، فالعلم قوة أثبتت الأدلة والتجربة والبراهين أنه لا تدانيها ولا تضاهيها أي قوة.
عباد الله! الأصل أن أيام الدراسة والتعليم لها أثر كبير في حياتنا تنظيماً واستقراراً، وثمرة وبناءً، ولو بدون قصد من البعض منا، ولو كره البعض الرجوع وبداية العام الدراسي، لكنها مؤشرات تنبه وتؤكد على أن للعلم وطلبه أثرًا كبيرًا في حياتنا اليومية ولو كرهناه، فكيف لو أحببناه، وأخلصنا النية والقصد في طلبه؟ كيف لو عرفنا أهميته لبناء النفس، وسعة الوعي والثقافة، وبناء الوطن والحضارة؟ فماذا أعددنا للغد كآباء وأمهات وكمعلمين ومعلمات للمسئولية الملقاة على عواتقنا في تنمية عقول الملايين وتعليمهم وتربيتهم، وما برامجنا وخططنا لتأهيلهم ومساعدتهم لكشف الذات، والمواهب والقدرات، وكسب المزيد من المعارف والعلوم؟.
يا معشر المعلمين والمعلمات: والمربين والمربيات الفاضلات: يا من جعلكم الله مشاعل للنور والرحمة هاهم أبناء المسلمين وبناتهم قد أقبلوا عليكم محبين مجلين أقبلوا عليكم بكل شوق وحنين ينتظرون منكم علوماً نافعة، ينتظرون منكم الوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فخذوا بمجامع تلك القلوب إلى الله، ودلوها على محبة الله ومرضاة الله، واغرسوا فيها الإيمان والإحسان والعبودية لله ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين [فصلت:33].
يا مشاعل النور والرحمة: ما كان لله دام، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فأخلصوا -رحمكم الله- لله القول والعمل.
قال الحسن البصري رحمه الله: لايزال الرجل بخير إذا قال: قال لله، واذا عمل: عمل لله، الإخلاص هو الهدى والنور، عاقبته الرضا والسرور، وجنات الفردوس والحبور، ما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، قال بعض السلف رحمهم الله: كم من عمل قليل كثرته النية .
رسالة العلم رسالة التعليم اقتداء بأشرف الخلق سيدنا محمد ، كان خير المعلمين إمام المربيين والموجهين، كان خير المعلمين، قال معاوية وأرضاه: ((فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله ما كهرني ولا ضربني ولاشتمني)) ، وقال أنس بن مالك وأرضاه: (ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله ، ولقد صحبته عشر سنين ما قال لي يوماً أف).
كان خير المعلمين، كان خير المربين، حينما كان حليماً رحيماً رفيقاً رقيقاً، ييسر ولايعسر، ويبشر ولا ينفر، كان خير المعلمين حينما كان طليق الوجه دائم البشر والسرور، قال جرير وأرضاه: (ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي).